الجمعة، 8 مايو 2020

أنا و أبي و قشور المانجو



في طفولتي عندما كان يحلّ موسم فاكهة المانجو كان أبي يحضر منه كمية للبيت وكنا نجلس حوله لنشاركه طعمها العذب ....
كان يعطينا اللب ويقوم هو بأكل قشورها ....
كنت أراقب هذا التصرف الغريب منه دون أن أعلم السبب ....
سألته يوما لماذا تأكل قشور المانجو يا أبي؟!!!
نظر إلي بابتسامة وقال :
"
آكلها أنا حتى لا تأكلها أنت" ....
لم أفهم معنى كلامه في وقتها، وبررت الأمر بأنها قد تكون عادة قديمة اكتسبها من أيامه التي عاشها في طفولته بين أحضان الفقر القاسي وخصوصا أن طعم قشور المانجو ليس سيئا ..ولكنه بصراحة لا يقارن بما هو تحت تلك القشور ....
نسيت أمر قشور المانجو.. كما نسيت كثيرًا من الذكريات بين صفحات كتاب الزمن ....
من مدة قريبة ... أهداني شقيقي فاكهة مانجو، .... جلبها لي كهدية ..
كنت أمني نفسي بالاستمتاع بطعمها الذي ينافس شهد النحل طوال الطريق وأنا متجه إلى بيتي ....
وبمجرد أن وصلت البيت بدأت بتقطيعها وهي تتفجر بين يدي بما تحتويه من لب ذهبي و عصير ملكي ....
وقبل أن أضع أول قطعة منها في فمي.. اقتربت ابنتي الوحيدة أسماء مني وقالت : "أبي أريد قطعة" ....
ابتسمت من طلبها وأعطيتها الجزء الذي كان بيدي .... وعلى الفور اقترب ابني الصغير شعبان يطلب مثل ما حصلت عليه أخته .... ولحقهما أخوهما أحمد يطلب حصته تماما كما طلب دياب حصته ....
كانت فرحتي بالنظر إليهم وهم يمرغون وجوههم بقطع المانجو والسعادة والفرح تشع من أعينهم كشمس الصباح الدافئة بعد ليلة شتاء بارد....عارمة لا توصف .
وفي لحظة وجدت نفسي أمام صحن خالٍ إلا من بعض قشور المانجا التي مازالت عالقة بها أجزاء صغيرة من فتات الفاكهة الأصلية ....
بدأت بالتهام قشور المانجو دون تفكير إلى أن توقفت فجأة لأتذكر كلمات أبي ....
الآن فقط بعد كل تلك الأيام اتضح لي معنى كلماته وماذا كان يقصد بعبارته ....
الآن فقط علمت أن سعادة ابي الحقيقية لم تكن يوما في أكل قشور المانجو .... وإنما كانت سعادته الحقيقية في رؤيتنا ونحن نأكل أفضل جزء منها أمامه ....
كانت فرحته الغامرة وهو يشاهدنا ونحن نحصل على أفضل وأنقى وأجود ما كان يقدمه إلينا في لحظتها ....
وتساءلت حينها والدموع في عيني ....
كم من مانجو قدمها لنا أبي واكتفى هو بمجرد قشورها ؟!!!
وأنا هنا لا أقصد تلك الفاكهة بذاتها .... ولكن اقصد كل ما ترمز إليه في هذه الحياة .... فالمانجو قد تكون ملبسا أو بيتا أو فراشا أو نوما مريحا أو تعليما ....
وقد تكون أيضا لمسة حنان على الكتف .... أو قبلة على الوجه ....
فمانجو الأهل لا حدود لها .... ولا يمكن لأحد أن يقيم سعرها ....
أنظر من حولي لأجد أبناءً لا يقدّرون أهلهم حق القدر .... ولا يوفونهم حقهم ....
وكأن وظيفة الأهل في هذه الحياة هي في اختلاق الذرائع التي من شأنها أن تكدر صفو حياتهم ....
أرى أبناء قد تملكهم الغرور حتى حسبوا أنهم يفوقون أهلهم علما وفكرا ومنطقا ....
أرى أبناء يقدسون كلمة الزوج أو الزوجة في مقابل دموع الأم أو الأب ....
أرى أبناء يهجرون أهلهم في ديار رعاية بعيدة ويتركونهم لرحمة الغرباء ....
أرى أبناء قد يقاطعون أهلهم سنوات ....
أرى أبناء يتمنون زوال أهلهم من هذه الدنيا عاجلا ليس آجلا ....
أرى كل ذلك وفي نفسي ....لو كان الأمر بيدي ...
لدفعت عمري كله ثمنا .... حتى يعود بي الزمن لأجلس مع أبي يوما واحدا أسبقه حينما يحضر فاكهة المانجو .... لألتهم قشورها بدلا عنه فيتبقى له فقط أفضل ما فيها ....
حتى إذا سألني لماذا أحب أكل القشور أقول له :
"
آكلها أنا حتى لا تأكلها أنت"
إهداء إلى كل من مازال أبوه على قيد الحياة ، عسى أن تجد الكلمات إلى قلبه دليلا ....
اللهم اغفر وارحم آباءنا وأمهاتنا واجعلهم من أهل الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين ....
اللهم ألبس لباس الصحة والعافية كل من هم على قيد الحياة من الآباء والأمهات واعف عنهم ولا تقبضهم إلا وأنت راض عنهم يا سميع يا عليم ....
اللهم سدد خطاهم وأحسن خاتمتهم وألحقنا بهم إلى جنات النعيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق